نخبة بوست -كتب مالك عثامنة (المجلة)
يطمح الملك الأردني عبدالله الثاني إلى بناء مشروع دولة بحياة سياسية حزبية وحكومات برلمانية سياسية.
طموح الملك ليس جديدا، وعبر عنه في مقابلات صحافية عديدة، ولقاءات محلية عامة، وجلسات مغلقة. ثم بلورها في أوراق نقاشية طرحها الملك علنا في سلسلة منشورة بدأت بورقة أولى عام 2012 وانتهت بورقة سابعة عام 2017. ثم كان أول تجلياتها لجنة ملكية وضعت الطموح الملكي موضع الرؤية على خارطة طريق صاغتها كمخرجات تم تعديل الدستور والتشريعات بناءً عليها، وانتهت بانتخابات نيابية سبقها تشكيل أحزاب “تحبو سياسيا” شاركت في الانتخابات، ومنها ما حصل على مقاعده دون نضجه سياسيا حد الفطام، وتيار إسلامي حصد مقاعده بشعبوية جارفة يتقن توظيفها سياسيا وبمهار
المسألة الإصلاحية في الدولة الأردنية ليست سهلة، حتى على الملك نفسه، وهو رأس الدولة.
تلك الدولة التي تحاصرها الأزمات الإقليمية بلا توقف وباستهداف مباشر ملموس وواضح في كل ما طرأ بعد أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول بكل تداعياته الإقليمية الجارية حتى الساعة، ويعاني اقتصادها من عجز “مزمن” لقلة الموارد وبطالة تتسع مع ديموغرافيا تتضخم بتنوع، وتركيبة مجتمعية متفاوتة ومتشابكة بين محافظين “لا يحبون التغيير وينفرون منه” وليبراليين يريدون التغيير السريع “مع تنوعهم أيضا في نوع التغيير”، وعشائرية تحاول الحفاظ على مكتسباتها. يرافق ذلك كله موجة “تدين” عامة وشاملة تختلط فيها العادات بالموروث بالتأثر السلفي والتوظيف الإخواني المستمر لكل المعطيات سالفة الذكر.
ومع ذلك، لا تزال المحاولة مستمرة في بناء مشروع دولة بحياة سياسية حزبية وحكومات برلمانية سياسية، ويجب أن تستمر بلا شك.
طيب.. فلنفكك العبارات ونعيد تركيبها على الوقائع والواقع.
الدولة التي نتحدث عنها وفيها وعليها ما يلي:
– الدولة فعليا لم تعد ريعية، عصر الامتيازات “الرسمية” انتهى، والدولة غير قادرة على “الإعالة” بالمفهوم التقليدي الذي اعتاده الأردنيون، وهذا يعني ببساطة أن القطاع الخاص يجب أن يكون مستعدا للنهوض وتعبئة فراغ “الريعية” بمفاهيم إنتاجية صحية ومتعافية.
– هذا القطاع الخاص، ببساطة ووضوح، غير مستعد، وهو نفسه رهن تشريعات “إدارية” بنكهة سياسية كانت تضع أكبر منشأة فيه تحت رحمة “الأفندي موظف الميري”! ولا تزال. مع الأخذ بعين الاعتبار أن الأفندي غاضب وعاتب ومستفز ومتسلط أكثر من قبل.
– الدولة، التي لم تعد ريعية ومحكومة بتشريعات تنظم جهازها البيروقراطي الراسخ والعنيد، تم اختراق بيروقراطيتها “التي كانت سر نجاحها أيام كانت ريعية” بتفريعات مؤسسية وهيئات مستقلة تتشابك أدوارها مع الوزارات والمؤسسات القديمة المعنية، والتشابكات وصلت حدا من الإرباك بحيث إنه أصبح من العادي أن تتقاطع أدوار وزارة يرأسها وزير ما مع مؤسسة مستقلة حديثة يرأس مجلسها الوزير ذاته، وكل ذلك يحدث باسم القوانين.
– الدولة، التي لم تعد ريعية لكنها محكومة بتشريعات ريعية بيروقراطية ومخترقة بتفريعات الهيئات المستقلة ذات نكهة القطاع الخاص الحديث، أيضا تتم إدارتها بنفوذ خفي وشبحي من مراكز قوى تجاوزت الجماعة الأمنية، إلى نخب تتقاطع مصالحها حتى تصل إلى التناقض فتتصارع على ساحة الدولة “المرتبكة”. والكل يتخفى خلف اسم الملك.
– الدولة، بمعناها الضيق المحصور بالحضور الرسمي لمؤسساتها السيادية والخدمية فقدت كثيرا من مصداقيتها أمام الشارع الذي يتصاعد غضبه يوما بعد يوم.
صاحب القرار هنا مطالب بتنظيف كل ذلك بل وتجريفه، وإعادة تأهيل الدولة من جديد لتكون بكامل عافيتها مهيأة لدخول العصر الجديد من الإصلاحات.
لكن هذا لا يكفي، فهناك أيضا مفهوم المواطنة، وهو حجر الأساس لتكون هناك دولة مؤسسات وقانون تحت دستور ينص على أن “جميع الأردنيين أمام القانون سواء”. وهذا نص دستوري جميل ونبيل ومحترم بكل كثافته المختصرة، لكنه غير صحيح على أرض الواقع، مما يجعلنا نفكك مفهوم المواطنة بواقعها ووقائعها أيضا:
– المواطنة في الأردن مرتبطة “قانونا وبالتعليمات” بالرقم الوطني الأردني، وجواز السفر ليس إثبات مواطنة أكثر منه وثيقة سفر قد تحمل الرقم الوطني أو تخلو منه.
– المواطنة في الأردن كانت مستقرة منذ بدايات الدولة أكثر منها اليوم، فالمواطنة في الأردن خاضعة “للرقابة والتفتيش” الرسمي والشعبي.
– مفهوم المواطنة في الأردن أصابه الارتباك لسبب عميق وجوهري يتعلق بالضفة الغربية التي كانت جزءا لا يتجزأ “دستوريا” من المملكة الأردنية الهاشمية، حتى إن الدستور الحالي المعروف بدستور 1952- تعرض لكثير من التعديلات- قائم أساسا على أن المملكة جغرافيا بضفتين، شرقية وغربية. هذه الوحدة مزقتها فكرة “التمثيل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني” منذ عام 1974 في قمة الرباط، وانتهت بقرار مزاجي غاضب وغير دستوري أعلنه تلفزيونياً الملك الراحل حسين، ولم يصدره حتى مجلس الوزراء ولم يوقعه الملك.
– هذا الإرباك “السياسي” الذي افتعلته سياسات “منظمة التحرير الفلسطينية” تاريخيا، أنهى واقع المواطنة الصحية والثابتة لكثير من مواطني الضفة الغربية تحت سلطة يتم تقويضها يوميا ومنهكة حد فقدان السيطرة وبالكاد تسيطر على رام الله وضواحيها، وتواجه الآن حكومة يمين إسرائيلي تسعى بجدية إلى إنجاز الضم النهائي للضفة مع مخططات ترانسفير وترحيل طوعية أو قسرية.
– المواطنة في الأردن، مفهوم تتنازعه أجندات متضاربة، بين “بعض” منظمات مجتمع مدني مهتمة بالتمويل المستمر والسخي لتمرير برامج ميوعة سياسية لا معنى لها واقعيا، أو يمين أردني- إن جاز التعبير- يتحول إلى شوفينية متعصبة تحاول خلق أيقوناتها التاريخية الرمزية بالغصب عن التاريخ نفسه، أو يسار فصائلي منهك يحاول التعافي عبر نقض مفهوم الدولة الأردنية بنفَس انتقامي، أو اختراقات إقليمية من الخارج تحاول زعزعة الأمن الداخلي الأردني لتمرير صفقات إقليمية تضع الأردن والضفة على الرف المنسي والمهمل.
المواطنة، مفهوم واضح، لكنه معقد وشائك ويحتاج من الدولة أن تحدد موقفها مرة واحدة وإلى الأبد في علاقتها مع الضفة الغربية، ومن مكانها في الإقليم بشجاعة وحسم.
نعم، الدولة الأردنية بحاجة إلى إصلاحات سياسية، ربما إعادة بناء سياسي جديد يتفاهم مع العالم الذي نعيشه، وهذا بلا شك يتطلب التخلي عن المفهوم الريعي إلى مفهوم الدولة الحديثة التي تديرها المؤسسات ويحكم العلاقات فيها القانون العصري والحديث، لكن الدولة الأردنية “في حالها الراهن” بحاجة إلى استعادة ذاتها المختطفة من قبل مراكز قوى تنازعتها وأنهكتها واستنزفتها، وهي بحاجة إلى ترسيخ مفهوم المواطنة فتكون تلك القوانين الحديثة ذات قيمة ومعنى فاعل.
والدولة الأردنية بحاجة ماسة أيضا بكل مكوناتها الأهلية والرسمية إلى أن تعيد تأهيل الوعي الجمعي الذي تعرض للمسخ والتشويه، تأهيله “معرفيا وتربويا” وإنضاجه بمفاهيم التعددية وسلطة القانون وقوة الدستور، الدستور الذي يخضع له الجميع، بما فيه رأس الدولة- الملك، المكلف بصيانته وحمايته.
حينها، يمكن الحديث بسهولة ومرونة ودون تكلف إنشائي عن حكومات برلمانية وحياة حزبية ودولة مواطنة متساوية قوية بجبهتها الداخلية وقادرة على التموضع باستقرار في إقليم يتم تفكيكه وتركيبه من جديد.