* نجحت إسرائيل في خلق تهديد ضد ذاتها، تهديد قوي وخطير يصعب مقاومته أو تغييره
* لم تكن الحروب والصراعات خياراً مفروضاً على إسرائيل، لكنها مبادرة إسرائيلية، أو ذلك ينطبق على الأقلّ على حرب 67، وانتفاضتيّ 87، 2000
* لن تحقق إسرائيل أهدافها في هذه الحرب لسبب بسيط وبديهي؛ لأنه ليس لديها هدف
* عندما يُقتل الكبار فإن ذلك يؤسّس لمرحلة جديدة قد تكون مستقرة أو سلمية، وعندما يُقتل الصغار؛ فإنها الحرب!
* لم تكن الانتفاضة والأحداث اللاحقة مبادرة فلسطينية مستقلة عن سياسات إسرائيلية لا تحتاجها وليست مضطرة لها
* كان نتنياهو محظوظاً في قدرته على الاستمرار في الحرب إلى ما لا نهاية؛ لقد وجد وظيفة دائمة أو شبه دائمة؛ وظيفة القتل
* النخبة الإسرائيلية دخلت في مرحلة من التيه والانقسام؛ بدأ ذلك بانقسام حزب العمل المؤسس لإسرائيل، ليمنح انتصاراً مجانياً لعدوه الليكود وجماعات من المغامرين
نخبة بوست – كتب: إبراهيم غرايبة
نتساءل عمّا يحدث لأن ما حدث قد حدث. لكن التحليل المستقبلي يجب أن يضيف ما يحدث لو أن ما حدث لم يحدث. ولو أن ما لم يحدث قد حدث. الحال أن المستقبل ليس سوى التاريخ، أو كما يقول الشاعر: يمر بلا غدها الأبد.
لشديد الأسف فإن التاريخ يقدم دروسا مجانية بالغة الأهمية، لكن يبدو أن أغلب الأمم والأفراد لا يحبون شيئا مجانيا. وهذه قاعدة تسويقية تحقق ثروات بالتريليونات (آلاف المليارات) فقط لأنها ليست مجانا؛ في الوقت الذي يكون في مقدور المستهلكين أن يحصلوا على السعلة أو الخدمة نفسها مجانا.
يا لجيلنا الذي تمتلئ ذاكرته بالبكاء والحزن المديد بلا انقطاع وهو يرى المقاومين يقتلون أو يموتون أو يعتقلون على نحو رمزي لا ينسى؛ باتريس لومومبا، سيد قطب، جيفارا، جمال عبد الناصر، عبد الخالق محجوب، هاشم العطا، جوزيف قرنق، تشاروما ماجومدار (رفيقة وتلميذه سانيال ظل بعد مقتله معتصما يقاتل في الجبال أربعين سنة حتى هده المرض والزمن فمات منتحرا عام 2010)، مروان حديد، تشاوشيسكو، أسامة بن لادن، صدام حسين، كارلوس، أوجالان،.. وحتى لا يفوتنا المشهد، فقد أعدم لينين أمامنا رمزيا على شاشات محطات التلفزة العالمية بتدمير تمثاله في موسكو.
أما في السياسة والحروب فإن الأحداث تنتهي رمزيا برسالة يبعثها المنتصر، هكذا يقال استنتاجا لعقلية المنتصر الأمريكي الكاوبوية؛ عندما يقتل الكبار فإن ذلك يؤسس لمرحلة جديدة قد تكون مستقرة أو سلمية، وعندما يقتل الصغار؛ فإنها الحرب!
كان في مقدور إسرائيل لو تحررت (نفسيا) أن تكون دولة آمنة مستقرة لو أنها تجنبت سلسلة الحروب والصراعات التي حدثت منذ العام 1967، وكان هذا رأي الآباء الإسرائيليين المؤسسين مثل بن غوريون وإشكول. لم تكن الحروب والصراعات خيارا مفروضا على إسرائيل، لكنها مبادرة إسرائيلية، أو ذلك ينطبق على الأقلّ على حرب 67، وانتفاضة 87، 2000، كان في مقدورها أن تتجنب الانتفاضة، وأن تمنح اتفاق أوسلو (1993) مصداقية أمنية وتنموية، ومازال في مقدورها أن تدير واقعا اقتصاديا اجتماعيا ينشئ استقرارا وسلاما كأمر واقع.
كما حدث بين عامي 1948 – 1988. كانت الأزمة الناشئة منذ العام 1987 إلى اليوم مبادرة إسرائيلية يمكن تجنبها. لم تكن الانتفاضة والأحداث اللاحقة مبادرة فلسطينية مستقلة عن سياسات إسرائيلية لا تحتاجها وليست مضطرة لها.
جميع الأحداث الميدانية أو العسكرية التي تديرها إسرائيل منذ الانتفاضة (1987) كانت عبئا وخسائر اقتصادية وأمنية وأخلاقية أو ثمنا لسياسات ومواقف هي بمنظور إسرائيلي عام غير منطقية، فالاقتصاد والمجتمع الإسرائيلي محتاج إلى الفلسطينيين كشريك اقتصادي واجتماعي ينشئ في المحصلة مكاسب إسرائيلية من غير حرب أو صراع.
الاقتصاد الإسرائيلي يحتاج إلى القوى العاملة الفلسطينية، والثقافة الفلسطينية السائدة أقرب إلى الاتجاه الإسرائيلي الاجتماعي والعام من اليهود الروس والأوكران وعموم المنظومة السوفيتية (المرحومة) وكان في مقدور إسرائيل أن تدير عمليات شراكة اقتصادية واسعة ومتنامية مع الدول العربية والإسلامية منذ الثمانينات.
في المقابل فإن إسرائيل وضعت نفسها في حالة توتر واستنفار دائمين، وفي بيئة من العداء والكراهية المتبادلة من غير حاجة لذلك.
لن تحقق إسرائيل أهدافها في هذه الحرب؛ لسبب بسيط وبديهي؛ لأنه ليس لديها هدف، وللحق فإن النخبة الإسرائيلية ليست وحدها لا تملك رؤية ولا هدفا واضحا، حتى البقاء الذي هو أبسط الأهداف وأوضحها لم تعد تسعى إليه النخبة الإسرائيلية ونخب سياسية أخرى في هذا العالم المرتبك اليوم أو الآخذ بالزوال، لكن العالم الجديد لم يتشكل بعد.
كان نتنياهو محظوظا في قدرته على الاستمرار في الحرب إلى ما لا نهاية. لقد وجد وظيفة دائمة أو شبه دائمة لدى الولايات المتحدة الأمريكية؛ وظيفة القتل. الغرب يستثمر كثيرا اليوم في هذه الوظيفة، يبحث عن قتلة!
هل تدير إسرائيل في الوقت الضائع الناشئ عن الانتخابات الأمريكية مغامرة مأمونة العواقب؟ هل ستنشئ الانتخابات الأمريكية واقعا جديدا مختلفا؟ الإجابة البديهية أو المنطقية هي “نعم” لكن ذلك لا يعني تغيرا كبيرا سوف يحدث. سوف يسعى الرئيس الأمريكي القادم أيا كان إلى وقف الحرب، فالديمقراطيون يحتاجون أن يرمموا ما أحدثته الأزمة السياسية والاقتصادية، وترمب (أغامر بالتقدير أنه لن ينجح) مهما بدا متهورا أو غير عقلاني فإنه سيواجه أيضا تحديات كثيرة تجعل وقف الحرب ضرورة بالنسبة إليه. صحيح بالطبع أنه يميني متطرف ويؤيد نتنياهو أو يحبه، لكن كمحصلة للمؤسسات والسياسات الأمريكية التي تشارك الرئيس أيا كان هذا الرئيس سوف يسعى في وقف الحرب ويسعى أيضا في تجنب حروب أخرى؛ سواء في الشرق الأوسط أو أقاليم أخرى. الولايات المتحدة الأمريكية لديها تحديات مع الصين تفوق أهمية وخطورة كل التحديات الأخرى.
إن أي إدارة أمريكية قادمة تحتاج إلى تفسير منطقي ومقبول ونفوذ سياسي قوي لدى المؤسسات التشريعية والرأي العام الأمريكي حين تقرر أن تدفع لإسرائيل عشرة مليارات دولار لمساعدة العمليات العسكرية المستمرة. هل سيكون في مقدور الرئيس الأمريكي تحمل التبعة الناشئة عن مثل هذا القرار؟
يمكن الحديث في هذا السياق عن تنامي الاتجاهات والأفكار السياسية الجديدة في العالم وفي الغرب والولايات المتحدة الأمريكية بخاصة، لكنها مقولات برغم صحتها لن تحدث تحولا سريعا ومباشرا، فالجيل الذي يحمل هذه الأفكار والاتجاهات مازال صغيرا في السن أو مهمشا، ونحتاج للانتظار ربما إلى حوالي العام 2050 حتى نرى هذه الأفكار واقعا سياسيا اقتصاديا اجتماعيا، وهو عام ليس بعيدا عمن سيبقى على قيد الحياة أو ينجو من الزهايمر؛ أقصد بالطبع مواليد الألفية الثالثة، وأما الآخرون فلا ينالهم سوى الفرجة والذكريات التي لن يريدها أحد! أو سوف يسخر منها الجميع؛ الجميع الذي سيكون مواليد الألفية.
الحال أن النخبة الإسرائيلية دخلت في مرحلة من التيه والانقسام. بدأ ذلك بانقسام حزب العمل المؤسس لإسرائيل والصهيونية، ليمنح انتصارا مجانيا لعدوه (أكثر من الفلسطينيين والعرب) الليكود وجماعات من المغامرين. هكذا فقدت إسرائيل الإجماع ثم الأغلبية لتتحول أسيرة لدى ذاتها، وليس لدى القادة السياسيين والعسكريين اليوم سوى الهرب من المستقبل بحروب عبثية لا قيمة لها ولا جدوى بالنسبة للإسرائيليين، ولا يتحمس لها سوى عصابة أمريكية تتسلى بالحرب مثل رحلة صيد. النخبة الأمريكية نفسها فقدت هويتها، ولم تعد تملك أهمية أو جاذبية لدى الأمريكان والعالم!
لا جدال أن الحرب تستنزف إسرائيل وقدراتها، صحيح أنه يوجد في الحرب منتصر ومهزوم، لكن لا يوجد كاسب، فالجميع خاسرون، ليس لدى إسرائيل اليوم في هذه الحرب إلا المدد الأمريكي، إنها تحول نفسها من دولة إلى جماعة من المحاربين المرتزقة. النخبة الإسرائيلية تغامر بدولتها وشعبها مقابل خدمات تقدمها للولايات المتحدة الأمريكية!
خاضت إسرائيل حربا في غزة لأكثر من عام، وقتلت الكثير من الفلسطينيين، وعلى الأرجح فإنها قتلت أو سوف تقتل معهم الرهائن الإسرائيليين والأمريكان، وإذا كانت الولايات المتحدة تعوض إسرائيل ما تخسره من آليات ومعدات، فمن يعوضها القتلى الإسرائيليين بلا جدوى، وكيف تصلح الخراب النفسي والسياسي والأخلاقي الذي تحدثه في المجتمعات والشعوب. هل تريد تحويلهم جميعا إلى جماعات من المقاتلين والقناصين الكارهين والمكروهين؟ هل يمكنها ذلك وإلى متى؟
الإسرائيليون ضحية في هذه الحرب مثلهم مثل الفلسطينيين واللبنانيين والعرب بعامة. الحقيقة الماثلة اليوم أن إسرائيل (النخبة الحاكمة والمؤثرة) لا تملك لنفسها وللفلسطينيين والإقليم والعالم رؤية واضحة محددة تسعى لتحقيقها أو تسويقها. ربما يكون في مقدورها أن تسوق وتبيع برامج وتقنيات التجسس والسيطرة، وتستثمر في هوس السيطرة والخوف لدى جماعات من القتلة حول العالم، لكنها سلعة أو خدمة سريعة العطب، وتعمل في الوقت الضائع، إذ سوف تتحول في المستقبل القريب إلى ألعاب للأطفال والمراهقين يتداولونها في “بلي ستيشن” لكن إسرائيل نجحت في خلق تهديد ضد ذاتها، تهديد قوي وخطير يصعب مقاومته أو تغييره، العداء الذي يذيب الصخر. والكراهية التي أنشأتها لدى شعبها ولدى الشعوب الأخرى.
في التراث (الإسلامي) قصة عن المسيح عليه السلام أنه كان في جولة يتخذ رفيقا يخدمه بالإيجار. وكان يحمل معه ثلاثة أرغفة. في الغداء أكلا رغيفين. وفي المساء قال المسيح للمرافق لنتعشى الرغيف المتبقي. نقسمه بيننا. كان المرافق قد اكل الرغيف في أثناء القيلولة، فقال لقد ضاع. كيف ضاع يا ابن الحلال؟ فقدته في القيلولة. ربما اختلسه كلب.
لم تعجب الإجابة المسيح لأنه لم يصدقها. فأحضر حجرا كبيرا وضربه بعصاه مقسما إياه إلى ثلاثة أقسام، ثم حوله إلى ذهب، قال للمرافق. هذا قسم لك، وهذا لي، ولنفترق. قال لمن الثالث؟ قال لمن أكل الرغيف الثالث.
قال أنا أكلت الرغيف الثالث. فأعطاه المسيح الأقسام الثلاثة وتركه. كان الذهب ثقيلا لا يقدر الرجل على حمله، وجلس بجانب الذهب ينتظر أن يمر به أحد يساعده في حمله. مر به رجلان، فقتلاه. قال أحدهما لرفيقه: إذهب أنت وأحضر حمارا نحمل الذهب عليه، وأنا أحرسه وأعد طعاما. وضع الأول السم في طعام رفيقه ليقتله ويستأثر بالذهب والحمار. وأما الآخر فقد بادر فور وصوله إلى قتل رفيقه، ثم جلس يأكل الطعام، فمات مسموما.