* ما يجري منذ 7 أكتوبر وحتى اللحظة وما بعدها، ليس وليد عشوائية فرضت نفسها، إنما هو مخطط متين الأركان كان بانتظار شرارة ما
*ما يجري بين ساعة وأخرى، يتجاوز محاولة إحداث صدمة كبرى، أو خلخله ركائز ظنناها ثابة رسوخ الجبال، بل هو تغيير جذري وجارف ولا نعرف حجم عواقبه العسكرية والجيوسياسية بكامل تأثيراتها التدميرية
* جواسيس التقنيات الحديثة وعملاء الأرض يعملون في تناغم مرعب ولا يمكن التكهن بمآلاته التدميرية، فهل اتخذ القرار بإخراج حزب الله من المعادلة كما هو الأمر جارٍ مع حماس؟
* ما تعانيه إيران اليوم لا يختلف كثيرا عن حال حزب الله، فمقتل الرئيس رئيسي واغتيال هنية وسط الحرس الجمهوري، وكثير من العمليات الأخرى داخل إيران وخارجها تؤكد حالة الانكشاف الأمني والعسكري لديها
نخبة بوست – كتب: هزاع البراري ( أمين عام وزراة الثقافة الأسبق)
ما يحدث كبير، بل ويسير بوتيرة يصعب فهمها للوهلة الأولى، لكن الأكثر وضوحًا وإرباكًا أن ما يجري منذ 7 أكتوبر وحتى اللحظة وما بعدها ليس وليد عشوائية فرضت نفسها، وإنما هو مخطط متين الأركان، كان بانتظار شرارة ما، فكانت الشرارة، وكانت المنطقة حقول أعشاب جافة خلفتها مواسم جدب متلاحقة.
نعم، مصاب المنطقة جلل ولم تتضح معالم سوءته بكل تجلياتها، والشركاء كثر وعلى رؤوس الأشهاد، بين تحالف الغرب الفج وخديعة ومراغة الشرق التي بانت للعلن بشكل سافر.
هكذا خرجت إسرائيل من أعباء خطوط الردع وأثقال توازنات الصراع الشرق أوسطي، لتعيد تقديم نفسها للعالم القريب والبعيد كالفاعل الوحيد القادر على إحداث انقلابات كبرى، وخلق موازين جديدة، من خلال القضاء أو إزاحة أو إعادة تأهيل قوى بقيت فاعلة ومؤثرة في المنطقة لأكثر من ثلاثين عامًا.
الآن نعي أن ما يجري بين ساعة وأخرى يتجاوز محاولة إحداث صدمة كبرى أو خلخلة ركائز ظنناها ثابتة كرسوخ الجبال. بل هو تغيير جذري وجارف، ولا نعرف حجم عواقبه العسكرية والجيوسياسية بكامل تأثيراتها التدميرية، ليس على صعيد القضية الفلسطينية، جوهر الصراع وبؤرة الصدام، وليست فيما يجري على الساحة اللبنانية من مواجهة سينمائية تظهر فيها ملامح البطل الأمريكي الذي لا يهزم وحسب، بل هو واقع جديد ربما يكون أشد قتامة، سيلقي بظلاله الثقيلة على منطقة الشرق الأوسط حتى حدود باكستان والقرن الإفريقي وبحر العرب. فلا يمكن عزل ما يجري في الصومال وإثيوبيا والسودان واليمن وليبيا عن هذا المخاض الكبير الذي تدخله المنطقة دون رغبة وربما دون وعي كافٍ. هي ظلال قد تعيد رسم تفاصيل الصراع بشكل مختلف، واقع في صالح طرف واحد إذا سارت الأمور بهذه الوتيرة ذاتها.
هل نحن أمام أفول كبير لقوى رئيسية رسمت لعقود طويلة واقع الحال حتى السابع من أكتوبر؟ لا شك أن المعطيات المتسارعة تنبئ بذلك، بل تقدم دلائل على دخول هذا الأفول حيز التنفيذ قسراً. فما تعرضت له حركة حماس في غزة من هجمة شرسة ولا إنسانية بكل جوانبها، والسعي لتفكيكها عسكرياً، وملاحقتها ميدانياً وتصفية قادتها خارجياً، والضغط على حلفائها، وإطالة أمد الحرب أكثر مما ينبغي في غزة حتى بعد إعلان قادة الجيش تحقيق الأهداف المطلوبة، ناهيك عن تدمير البنى التحتية والقضاء على سبل العيش والحصار الخانق، فإن هذا كله يكشف بوضوح صارخ الهدف من كل هذا، وهو إخراج حماس من المعادلة العسكرية والسياسية، واستكمال الإجهاز على ما بقي من أوسلو، ووضع حل الدولتين في إطار المستحيل وغير الواقعي.
الحال ذاته يُرحل إلى حزب الله في لبنان، فإن حجم الاختراق والانكشاف المذهل الذي وضع الحزب في أعمق دوائره الأمنية قراراً، وأبعدها منالاً بين أصابع الماكينة الإسرائيلية الهمجية، يصبح أدوات التخفي العصية هي ذاتها مصائد كبرى وأدوات إعدام وتصفية لا سبيل للفرار منها، مما أخلّ الحزب، المتمرس عسكرياً وأمنياً، في حالة تخبط وفوضى لا تنتهي باستشهاد زعيمه حسن نصر الله. بل إن كرة الثلج تتدحرج، وربما هي كرة لهب عمياء وسط غبار التكهنات غير المنضبطة. ما يحدث يؤكد أن استخبارات دول كبرى وضعت تحت تصرف إسرائيل، وإن جواسيس التقنيات الحديثة وعملاء الأرض يعملون في تناغم مرعب ولا يمكن التكهن بمآلاته التدميرية. فهل اتُخذ القرار بإخراج حزب الله من المعادلة كما هو الأمر جارٍ مع حماس؟
هذا واضح وفي طور التنفيذ، إنما التكهن بالشكل الذي ستتمخض عنه هذه الفوضى المدروسة، سواء بنزع سلاح الحزب، أو إعادة تأهيله وتغيير بوصلته وعقيدته القتالية، أو إخراجه من جنوب الليطاني كحد أدنى. هذه كلها تخرج الحزب من حالة الردع الحقيقية التي تبناها لثلاثين عاماً، وربما السيناريو أكثر سوءًا من ذلك، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار الداخل اللبناني، وتعطل الدولة بمؤسساتها الرئيسية: انتخاب رئيس وحكومة جديدة، ونظام عمل مجلس النواب وتعظيم دوره، وأن يصبح الجيش اللبناني هو صاحب الكلمة داخل حدود دولته، التي يتهم حزب الله بمصادرتها، أي الدولة اللبنانية.
إن ما تعانيه إيران اليوم لا يختلف كثيرًا عن حال حزب الله، فمقتل الرئيس رئيسي واغتيال إسماعيل هنية وسط الحرس الجمهوري، وكثير من العمليات الأخرى داخل إيران وخارجها، مما نعلم ولا نعلم، تؤكد حالة الانكشاف الأمني والعسكري لديها. والمراقب الدقيق لتصريحات القادة الإيرانيين يلمس تحولًا جوهريًا، ولو كان مبطناً بالكلمات الرنانة والإنشائيات التي لا تفضي إلى شيء سوى استدرار العواطف ومخادعة الحواس.
لا شك أن شيئًا من ذلك يحدث أو على وشك الحدوث، مما يعني انكفاءً إيرانيًا إلى الداخل، والتخلي شيئًا فشيئًا عن أذرعها في المنطقة، ولن يأتي ذلك إلا من خلال ما يجري في الخفاء وتحت الطاولة، ولعل القادم، وإن تأخر قليلاً، سيكشف كثيرًا من ذلك.
إن حدث هذا أو بعضه، فنحن بلا شك أمام حالة أفول كبرى لهذه القوى أو تراجع كبير في دورها وفعاليتها في المنطقة، مما يُوجد حالة غريبة من الفراغ السياسي والعسكري، ستحاول إسرائيل استثماره إلى أقصى درجة ممكنة. مما يتطلب ضرورة صعود قوى مقاومة وطنية بأجندات وطنية خالصة، لسد الفراغ، وعدم الوقوع في شرك المصالح الإقليمية، والتوازنات التي لا تصب في صلب القضايا العربية. فوجود راعٍ رسمي غير وطني يغلب مصلحته الاستراتيجية على المصالح العربية الوطنية، وإن اتفقت مرحليًا مع مصالحه، يُعتبر درسًا كبيرًا ومؤلم الثمن. إن لم نتعلم منه، فالقادم صعب جدًا.
اكتشاف المزيد من نخبة بوست
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.