هناك من يعتقد أنه لا سلطة تعلو فوق سلطة الدولة، وأن للدولة حق في اتخاذ أي إجراء تراه مناسبًا دون قيود، هذا الأمر ينطبق على القانون داخل حدود الدولة (فهو قانون طاعة وامتثال، ولا بد من سيادة الاحترام فيه)، لذا ما إن خرجت هذه العلاقة وتعدّت حدود الدولة وتداخلت مع دول أخرى تمتلك هي الأخرى “السيادة”، فإنه لا بد من إضفاء القواعد القانونية والحقوقية على هذه العلاقات.
ومن هنا تصبح هذه الدول “بمثابة أشخاص أمام” القانون الدولي؛ ومن هذا المنطلق يُفهم أن للقانون الدولي دورًا في فصل الخلافات الناشئة بين الدول في المحاكم الدولية.
ولعل السؤال الذي يطرح نفسه هنا : ما دامت القواعد القانونية تنظم وتضبط العلاقات بين الدول، لماذا ما زالت الاعتداءات والحروب والخلافات قائمة، وما هي المحاكم الدولية، وما مدى إلزامية قراراتها على الدول؛ وخاصة الدول المهيمنة على القرار الدولي في العالم؟
ومن هذا المنطلق، برز خلال العدوان الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة منذ 7 أكتوبر الماضي الحديث عن هيئتين قضائيتين دوليتين هما: محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، حيث يركز هذا التقرير على التفريق بينهما وأدوارهما وقراراتهما بشأن القضية الفلسطينية، وتحديدًا تجاه الحرب في غزة، كون أن قراراتهما لم تثنِ إسرائيل عن حربها الدموية تجاه سكان القطاع المنكوب.
الفرق بين محكمة العدل الدولية والجنائية الدولية
بداية لا بد من التفريق بين محكمتين (محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية):
تعتبر محكمة العدل الدولية هيئة قضائية دولية؛ بمعنى أنها تختص بالفصل في النزاعات التي تنشأ بين “الدول”، ويبلغ عدد الدول التي لديها عضوية بها 193 دولة، إذ تتبع المحكمة لمنظمة الأمم المتحدة ومقرها في لاهاي – هولندا.
ولدى المحكمة دوران رئيسيان: النظر في القضايا التي تقع بين الدول و تقديم آراء استشارية بشأن مسائل قانونية تحال لها. وإذا أردنا أن نعطي مثالًا على الاختصاص الذي تعنى به هذه المحكمة، فإن القضية التي رفعتها جنوب إفريقيا ضد إسرائيل بتهمة ارتكاب جرائم إبادة جماعية في غزة هي مثال على اختصاصها.
أما أحكامها فهي ملزمة قضائيًا ونظريًا و نهائية، ولا إمكانية للاستئناف فيها، إلا اأنه واقعياً لا تلتزم بعض الدول بقراراتها.
وفي حالة امتناع أحد الأطراف عن تنفيذ حكم المحكمة، فإنه وفقًا للمادة 94 من ميثاق الأمم المتحدة، تُخول لمجلس الأمن السلطة من أجل تنفيذ الحكم إما بالقوة أو بالتسوية السلمية.
في حين تُعرف محكمة الجنائية الدولية بانها هيئة دولية مستقلة غير تابعة للأمم المتحدة أو أي مؤسسة دولية أخرى، تختص في ملاحقة الأشخاص الطبيعيين “الأفراد” المتهمين بارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية والجرائم ضد الإنسانية وجريمة العدوان، ولا يمكن لأي دولة أو جهة أن تؤثر على ما يصدر عن المحكمة، إلا أن هذه العبارة تبقى محط شك لدى كثيرين.
أما فيما يتعلق بالدعاوى التي تحرك أمامها فتتم بإحدى الطرق الأربع: إما أن يقوم المدعي العام بتحريك الدعوى من تلقاء نفسه، أو أن تقوم دولة عضو في المحكمة بذلك، أو أن يتدخل مجلس الأمن بتقديم حالة معينة يعتقد أنها جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية يتم ارتكابها، كما يمكن لدول غير الأعضاء في المحكمة أن ترفع قضية أمام المحكمة الجنائية، وهذا لا يُعتبر إقرارًا بانضمامها كعضو في المحكمة.
موقف المحاكم الدولية حيال الإبادة الجماعية في غزة
وفي ظل وجود هذه الهيئات القضائية الدولية، تتبادر إلى الأذهان تساؤلات حول الوضع الفلسطيني وتحديدا ما دار في غزة من ظلم وإبادة جماعية وقتل وحشي ودمار دموي دون محاسبة لإسرائيل أو ردعها عن أفعالها الإجرامية؛ مما قد يدفع الكثيرين إلى التشكيك في حيادية هذه الهيئات الدولية والاعتقاد بتحيزها لصالح إسرائيل.
وفي هذا الصدد، قال خبير القانون د. بسام أبورمان إن المحاكم الدولية قراراتها كلها صائبة، وأن غير المتابع للقضية وتفاصيلها يعتقد بأن العلة من المحكمة نفسها، إلا أن الخلل في التنفيذ وليس في المحكمة.
وأضاف أن المحكمة ليس من اختصاصها أن تنفذ القرارات التي تصدرها، مضيفاً أن اللوم يقع على عاتق كل الدول المستفيدة أو صاحبة المصلحة في المطالبة بحقوق الشعب الفلسطيني.
وحول اعتقاد البعض بتسيس المحكمة لصالح دول أو جهات معينة، أشار أبورمان إلى أنه يصعب جداً تسيس المحكمة، كون أن أعضائها من كافة دول العالم وليس فقط من الدول المهيمنة، علاوة على ذلك، فإن ميثاق المحكمة ونظامها يكفلان ويحميان الدول على حد سواء.
وقال أبورمان إنه لا بد من التوضيح للرأي العام، وتحديدًا الشارع العربي والفلسطيني، بخصوص الدعوى التي رفعتها جنوب إفريقيا مؤخرًا أمام محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل، والتي وصفها الكثيرون بأنها “تاريخية”، حيث تتضمن موضوعين أساسيين:
الأول يعنى في الطلبات المقدمة، وفحوى هذه الطلبات يتضمن وقف الحرب بشكل عام، وحماية المدنيين، وإدخال المساعدات والمعونات الطبية إلى القطاع، بينما تختص القضية الثانية باتهام إسرائيل بارتكاب جريمة إبادة جماعية في غزة، مؤكداً أن الحكم القضائي جاء بالنظر في الموضوع الأول، ألا وهو “الطلبات المستعجلة”، أما بالنسبة لارتقاء جرائم العدو الإسرائيلي إلى إبادة جماعية، فهذه الدعوى لم يبدأ البحث فيها حتى تلك اللحظة.
لماذا لا يتم تطبيق قرارات المحكمة الدولية
في ضوء عدم التزام إسرائيل وتنصلها من الالتزامات الدولية، أوضح أبورمان أنه كان يتوجب على جنوب إفريقيا والدول الداعمة وذات المصلحة التوجه إلى مجلس الأمن، الذي يعتبر السلطة التنفيذية الملزمة بتنفيذ قرارات المحكمة.
وبالنسبة لأسباب عدم توجه جنوب إفريقيا إلى مجلس الأمن، أفاد أبورمان بأن دور السياسة كان الفاصل واللاعب الأساسي في هذه القضية، مشيرًا إلى أن تأثير السياسة لم يكن على قرار المحكمة، إنما على تنفيذ القرار.
بمعنى؛ في ظل عدم وجود حكم قضائي، كان أي قرار يعرض أمام مجلس الأمن لتصويت عليه من قبل الدول الخمس الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، دائمًا ما كانت الولايات المتحدة، باعتبارها من الأعضاء الدائمين، تستخدم حق الفيتو، وعلى وجه الخصوص في القرارات المتعلقة بالاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، بحجة أن الخلاف الإسرائيلي-الفلسطيني هو خلاف قائم بين طرفين، وأميركا لها الحق في التعبير عن رأيها والوقوف مع طرف على حساب الآخر.
حيادية محكمة العدل الدولية
وإلى جانب دعوى جنوب إفريقيا، ومن باب التأكيد على حيادية المحكمة، أشار أبورمان إلى أن الرأي الاستشاري الذي صدر في 19 يوليو من هذا العام كان واضحًا بشكل لا يقبل التأويل، وأكدت فيه المحكمة أن كافة أشكال الاحتلال الإسرائيلي، من تهجير وقتل واستيطان واغتصاب، تُعتبر انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي.
وتابع أبو رمان بأن المحكمة، وفقًا للرأي الاستشاري، طالبت إسرائيل بضرورة تعويض كافة المتضررين والمصابين، وكذلك الأضرار المعنوية التي لحقت بهم.
ضمن إطار تعليقه على دور المحكمة، أجاب أبورمان أن المحكمة خدمت القضية الفلسطينية مرتين: المرة الأولى عند تقديمها للرأي الاستشاري الذي أكدت فيه على عدم قانونية الاحتلال، والمرة الثانية عند إقرارها وإصدارها للأوامر اللازمة للكيان الصهيوني المحتل، والتي تشمل الانسحاب وعدم دخول رفح، وتأكيد دخول المساعدات.
وأضاف أبورمان أن “العيب” ليس على المحكمة ولا على المنظومة القانونية، بل “العيب” يقع على المنظومة الدولية ومنظومة الأمم المتحدة، وعلى الدول المنتفعة من الحكم مثل جنوب إفريقيا التي صدر القرار لصالحها باللجوء إلى مجلس الأمن، إلا أنها لم تفعل.
المحكمة العدل الدولية خدمت القضية بتقديمها الرأي الاستشاري
وفي هذا الصدد، عبر أبورمان عن موقفه من قرارات المحاكم تجاه القضية الفلسطينية قائلا:” لو خطه قانوني فلسطيني لن يخرج معه أحسن من هيك“.
وأفاد أن المحاكم -وتحديدا- محكمة العدل الدولية قدمت الرأي الاستشاري حول العواقب القانونية الناشئة عن سياسات إسرائيل وممارساتها في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية”، ويتعلق ذلك بالاحتلال الطويل الأمد للأراضي الفلسطينية منذ عام 1967 ، بيد أنها رفضت الاحتلال والاعتراف بأي من أشكاله الموجودة حاليا على أرض الواقع .
أما بخصوص القضية المرفوعة من قبل جنوب أفريقيا، فقد أصدرت المحكمة قرارات وأوامر تلزم الكيان الصهيوني بالانسحاب من رفح، وعدم الاستمرار في احتلالها، وضمان إدخال المساعدات بكافة أشكالها.
ومن جهتها، قضت المحكمة بضرورة إنهاء الاستيطان، وضع حد للاحتلال الإسرائيلي، وتقديم تعويضات عن الأضرار التي لحقت بالسكان الفلسطينيين.
الجنائية الدولية أمام موقف محرج .. والسبب ؟
وفي السياق ذاته ، تواجه المحكمة الجنائية الدولية أزمة ثقة وعدم التزام بقراراتها فهي ليس على أسر حال من قرارات محكمة العدل الدولية، إلا أن الأخيرة قراراتها ملزمة وقد تلجأ لمجلس الأمن لتنفيذ التدابير الخاصة بإنفاذ الحكم الصادر عنها، أما المحكمة الجنائية طلباتها ملزمة فقط على دول الموقعة على نظام روما الأساسي، بيد أن دولا مثل (الولايات المتحدة وروسيا وإسرائيل والصين والهند وباكستان) رفضوا الانضمام للمحكمة.
علاوة عن أن الجنائية الدولية تنظر في القضية الفلسطينية منذ انضمام فلسطين إلى نظام المحكمة في عامي 2014-2015، فإن المحكمة الجنائية الدولية مقيدة بالاختصاص الزمني وخصائص القانون الذي تطبقه.
وفي هذا الصدد، قال أبورمان إنه لا يخفى على أي شخص أن المحكمة الجنائية الدولية مسيطر عليها وغير حيادية في قراراتها، حتى أصدرت مذكرة اعتقال وملاحقة بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالانت، على خلفية إرتكاب جرائم حرب في غزة، والذي اعتبروه كثيرون أنه “سابقة تاريخية”.
في المقابل، أصدرت قرارًا يدعو إلى اعتقال قادة حماس، وقد اعتبره البعض أنه يخلق توازنًا غير مبرر بين القيادة السياسية والعسكرية لحماس وقادة الاحتلال الإسرائيلي الذين ارتكبوا جرائم في غزة.
وعلى خلفية إصدار محكمة العدل الدولية قرارا يفضي إلى تصنيف الحرب في غزة ” إبادة جماعية” ستواجه المحكمة الجنائية الدولية تحديات كبيرة وستكون أمام اختبار “حرج” كما سيتم الضغط عليها من أجل تفعيل اختصاصاتها بخصوص محاكمة المسؤولين، بما في ذلك رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزرائه، بارتكابهم جرائم حرب.
أين مسار القضية اليوم
مؤخرا أعلن رئيس جنوب أفريقيا سيريل رامافوزا أن بلاده ستقدم في شهر أكتوبر “مجلدا من مئات الصفحات” يضم الحقائق والأدلة لدعم قضية الإبادة الجماعية التي رفعتها بلاده ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية.
وقال رامافوزا عندما سئل عن القضية “نحن عنيدون”، مؤكدا تصميمه “على المضي قدما في قضيتنا”؛علما أنه من المقرر أن تقدم جنوب أفريقيا بيانا بالحقائق والأدلة إلى المحكمة الشهر المقبل لدعم القضية.
الخلاصة: منافع معنوية لا مادية
ختاما، لا يمكن للزمن أن يقنن تلك التصرفات وإن طالت مدة الاحتلال -ولا بد- أن يأتي يوم تتنازل فيه أو تعود فيه إسرائيل والالتزام بالقانون الدولي وبالتالي، مهما كان قرار المحكمة فإنه يحمل نذرا بإمكانية لفت انتباه العالم المتغيب عن فهم الحقيقة حول المزاعم الإسرائيلية بأحقيتها في الأراضي الفلسطينية ويبطل تمييز المؤسسات والدول الدائم للاحتلال على على الغطرسة الإسرائيلية التي تمنحها اعتقادا بأنها “فوق القانون.”
كما أن الأحكام الصادرة عن الهيئات القضائية الدولية والتي تدين بها الاحتلال يفضي إلى تشويه السمعة الدولية لإسرائيل ويحد من علاقاتها واقتصادها وتعاملاتها وخاصة في تجارة الأسلحة مع الدول في العالم.
اكتشاف المزيد من نخبة بوست
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.